نَفْسْ
يونتان اولما
١. رؤية العالم في حبّة رمل
الجاليريا مظلمة. من قلب العتمة تومض مربعات مضيئة. مزج هجين وغريب بين التبسيط والتفخيم. بين النحيل الجاد والمبهر. للمكعبات أسرار، ظاهر وباطن، حركة غوص في المياه وإقلاع نحو الفضاء. داخل المكعب الذي يعكس الدماغ، يجلس "هارديسك" خارجي يحتوي على جميع المحاضرات التي كتبها الفنان يوماً- كل ما يعرفه، كما يدّعي اسم العمل. ندخل إلى متاهة من المرايا للفن الذي يحدّق في ذاته ككاميرا موجهة نحو شاشة وترى نفسها تحدّق في نفسها إلى ما لا نهاية.
٢. وسماء في زهرة الحقل
الفن الغربي هو نتاج تأمّلي. فالرسم الغربي يتأمّل ذاته. لوحات داخل لوحات، لوحات لمراحل من تاريخ الفن، لوحات لظهر اللوحة ولوحات عن أسطورة ولادة اللوحة، كل هذه مجرد أمثلة (شغلتني في السنوات الأخيرة) على هذا الميل للفن الغربي في تأمل ذاته. منذ بدايات عصر النهضة الإيطالي على الأقل، أصبح الفن الغربي إبداعًا لا يمكن فصله عن مؤلفه. ولم يعد الفنانون مجرد فاعلين مجهولين في صناعة الصور لأغراض الزينة أو الطقوس، بل هم مؤلفون لديهم تاريخ، وطابع، وموقف روحي وفكري تُعَرَّف مع ميولهم الأسلوبية وقصة حياتهم التي تنعكس في أعمالهم.
٣. القبض على اللانهاية في كفّ اليد
هذه الأمور معروفة وتقريبًا بديهية، لكن بين الحين والآخر تثير تساؤلات حول الحدود. هل ما كتبه نيتشة على ورقة غسيل يُعَد نصًا فلسفيًا؟ هل خربشة فنان على ورقة أثناء انتظاره لموظف البنك على الهاتف تُعَدّ رسماً؟
منذ سنوات كثيرة، حين كنتُ طالبًا في ثانوية الفنون في القدس، تحدثت معنا معلمة الرسم عن التكوين واللون. في الصفّ، كنا نرسم رسومات تجريدية ونرتّب بقع الألوان بجانب بعضها البعض.عندما عدت إلى البيت، طلبت مني والدتي أن أساعد في تقطيع السلطة. قطعت الخيار، البندورة ولا أذكر ماذا أيضًا، فخطر لي أن أرتّب الخضروات المقطعة على لوح التقطيع بنفس التكوين الذي جربته في الصف. نظرتُ إلى اللوح، حيث قطع البندورة الحمراء في الأسفل، وقطع الخيار الخضراء في الأعلى. بعدها، حين طُلِب مني نشر الغسيل، رتبتُ سراويل الجينز الزرقاء في الأعلى، والقمصان الحمراء في الأسفل، وبقية الملابس وفق نفس المنطق التكويني.
تذكرتُ ذلك اليوم حين خرجت مؤخرًا من أستوديو الفنان يونتان أولمان: إذا كنتُ أفكر في التكوين الفني عندما أقطع السلطة أو أنشر الغسيل، يطرح السؤال- متى نتوقف عن كوننا فنّانين؟
٤. والخلود في ساعة واحدة
المعرض الحالي لأولمان منشغل بالتشويش القائم ما بين الفن والحياة، وهو يحاول تنفيذ الخطوة الغريبة التالية: أخذ الخربشة العرضية التي يرسمها من ينتظر الرد الصوتي عبر الهاتف ونقلها إلى الكانفس؛ أخذ مواقع الحياة التي نعلّم فيها، نحاضر، نحلم، نقطع السلطة وننشر الغسيل- والنظر إليها كجزء من الحياة الإبداعية، كجزء من مشروعنا لإنتاج تعبير جمالي عن محتوياتنا النفسية. ببساطة، تعبر أعمال أولمان عن القلق من ابتلاع الفن لحياتنا، أو ربما حياتنا هي التي ستبتلع الفن. بهذا، ينضم أولمان إلى تقليد فني غني يمتد من رامبرانت إلى صوفي كال.
لكن الأعمال تحمل وجهًا آخر، معاصر أكثر، وأكثر خصوصيةً بعض الشيء; ذلك لأنها تنشغل بتمثيل المعرفة، تنشغل بالعلاقة ما بين الوعي والتكنولوجيا، بين الدماغ ووحدة التخزين المحمولة. وهي تتناول كون أولمان محاضرًا في تاريخ الفن، يحاضر عن الفنانين الذين يشغلونه كإنسان مبدع، والذين يبحث أعمالهم بدافع الشغف. يظهر هؤلاء الفنانين بطريقة ما في أعماله داخل الأستوديو. لكنها تتناول أيضًا الطريقة التي يحاول فيها تجاوز ديكتاتورية المعرفة، عندما يُقلِع نحو الفضاء أو يغوص في الأعماق; التأمل والحُلم، الجسد والنفس- كل ما هو خارج متناول العقل.
فلنتخيل عالمًا يمكن فيه تحميل وعي إنسان إلى “ديسك-اون-كي”. ادعائي هو أن هناك شيئ غامض، مكتوب في الفراغ المحيط بالحروف، فائض سلبي معين هو في قلب الوعي، نواة روح الإنسان، جذر كيانه، والذي لا يمكن تحميله إلى “ديسك-اون-كي”. هذا الفائض السلبي، هذا الفراغ، الموجود في الصناديق المضيئة، هو برأيي موضوع هذا المعرض.
